صدر كتاب “الفلسفة اللغوية” لجرجي زيدان (1861 – 1914) في سنة 1886 وقد أعاد إصداره “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات” مؤخراً مع كتاب آخر لزيدان هو “تاريخ اللغة العربية” (1922) في مجلد واحد، ضمن سلسة ” طي الذاكرة وإذا كنّا اليوم نقرّ بكون العلوم اللغوية واللسانيات أخذت موقعاً مركزياً في المعرفة البشرية، فعلينا أن نعود إلى بدايات هذا الحضور، وسوف نكتشف أنه في نهايات القرن التاسع عشر لم يكن ثمة أثر كبير لـ اللغة في منظومة العلوم الإنسانية، فقد كانت مجالاً يكاد يكون غير مرئيّ للفكر قبل ما عُرف بـ “المنعطف اللغوي” في العقد الثاني من القرن العشرين.
بدأ انتزاع اللغة لموقعها المحوري (والمستقل) في المعرفة بالأساس مع عالم اللغويات السويسري فيرديناند دي سوسير. وإذا أشرنا إلى أن كتاباً بالعربية يحمل عنوان “الفلسفة اللغوية”، فعلينا أن نعلم أن دي سوسير لم يكن في نفس السنة قد بدأ في وضع أفكاره الأساسية. ففي سنة 1881 كان فقط قد انتهى من رسالته الجامعية، ولن تتبلور أبرز نظرياته الا مع بدايات القرن العشرين.
قبله كان النظر التاريخي في كل لغة هو مجال اشتغال اللغويين بالأساس، وفي ذلك ينصبّ اهتمام جرجي زيدان أيضاً، إذ يقول في مقدمة العمل: “موضوع هذا الكتاب البحث التحليلي في كيف نشأت اللغة العربية وتكوّنت”، وهي عبارة تشير إلى وعي المؤلف بما يدور في الغرب من بحث لغوي، خصوصاً أنه اعتبر العربية لغة “اكتسابية خاضعة لناموس الارتقاء” كما هو الحال مع تيارات فكرية في الغرب حاولت استلهام ما وصل له داروين في علم الأحياء وتطبيقه على مجالات أخرى مثل المجتمع واللغة.
يعرف زيدان أيضاً أن الأبحاث الفلسفية اللغوية “جديدة حتى في لغات الإفرنج”، غير أنه يقف عند هذه الملاحظة ولا يأتي بأية أداة فلسفية لتحليل اللغة العربية، فكأنما هو انتظار لاكتمال البحث الفلسفي في ثقافة أخرى كي نبدأ في فهم لغتنا. ومن هذه الزاوية يظهر قصور عمل زيدان الذي قد يخفيه كون عمله رائداً في العربيةً، فإذا كان الاهتمام الفكري باللغة قد وُجد في البلاد العربية وفي الغرب على حد السواء نهاية القرن التاسع عشر، لماذا تواصل تطوّره هناك فيما انحسر هنا؟
بصفة عامة يُظهر الكتاب نزعة تعليمية تلقينية تؤدّي بالضرورة إلى تبسيطات مخلّة، من ذلك تعريفه للغة بأنها “أصوات يعبّر بها كل قوم عن أغراضهم”، وهو ما يكشف أنه يأتي لتناول الظاهري من المسألة، ولا يصل إلى مخبوءاتها وقضاياها.
عائق آخر يتمثل في اعتباره الجاهز بأن “العربية إحدى اللغات السامية وأرقاها مبنى ومعنى واشتقاقاً وتركيباً”، وهي أول جملة في فصل “ما هي اللغة العربية؟” وكان أجدى أن تكون هذه المقولة نتيجة لا منطلقاً، فمركزية العربية في فهمه مثلت عائقاً في تطوير حسّ نقدي هو قوام أي تناول فلسفي (كما يقول عنوانه) في دراسة العربية.
وكما غابت الروح الفلسفية، غاب عن العمل المنهج العلمي، وإن ظنّ صاحبه أنه استوفى شروط الاستدلال والبرهنة بهيكلة كتابه بين قضايا وإثباتات، وهي قضايا خمس، منها “أن الألفاظ المتقاربة لفظاً ومعنى هي تنوّعات لفظ واحد” و”أن الألفاظ المانعة الدالة على معنى في غيرها إنما هي بقايا ألفاظ ذات معنى في نفسها”، و”أن جميع الألفاظ المطلقة قابلة الرد بالاستقراء إلى لفظ واحد أو بضعة ألفاظ”.
اختلال البعد المنهجي يبرز في نهايات الفصول التي تنتهي في الغالب بعبارة “ونظن ما ذكرناه كافياً لإثبات القضية …”، بالإضافة إلى أن متن البرهنة يتضمّن عبارات من قبيل “يرجّح كل الترجيح” وهو مما يسقط عن البحوث علميّتها.
إذا كان يصعب اتخاذ كتاب “الفلسفة اللغوية” مرجعاً علمياً، فما يبقى له هو شرف الريادة في البحث في مجال اللغويات، ومن وراء ذلك كشفه لجانب من ذهنيات عصر النهضة، وبالتالي يفسّر الحدود المعرفية التي لم يستطع المثقفون العرب تجاوزها آنذاك، عسى أن ينتبهوا إلى أشكال أخرى من الحدودِ معاصرةٍ.