هل يفكّر الأدب؟ هل يطلق رسائل فلسفيةً أم يستعير من الفلاسفة مفاهيمهم ونظرياتهم؟ أي نوع من الفكر تولّده النصوص الأدبيّة؟ هل هناك مواجهة بين الأدب والفلسفة؟ لماذا على الفلسفة أن تهتم بالأدب؟ أي نوع من الفكر يتولد في النصوص الأدبية؟
لا بد من الدفاع عن النزعة الفكرية للأدب لأنه يمتلك قيمة فكرية أصيلة، وهذا ما يسمح لنا بالتكلم كما سبق وأن أعلن بيير ماشيري في كتابه بم يفكر الأدب، ترجمة جوزيف شريم، عن “فلسفة أدبية”.
إن الخطاب الأدبي الصرف مثل الخطاب الفلسفي الصرف، لاوجود له، ولا توجد إلا خطابات ممتزجة تتداخل فيها ألعاب لغوية مستقلة في أنظمة مراجعتها وفي مبادئها. كما أنه من المستحيل تحديد نسبة الشعري والروائي والمنطقي تحديدا نهائيا. إن الفلسفي حاضر في النصوص الأدبية على مستويات متعددة، لذلك من الضروري تفكيك تلك النصوص بعناية وفق الوسائل التي تتطلبها والوظائف التي تشغلها.
يكتشف القارئ في أعمال “مدام دوستايل” و”جورج صاند””الأدب كنوع من آلية لاستكشاف دروب الصيرورة الإنسانية من منظور أنتروبولوجي. إذ نجد في روايات مدام دو ستايل دراسات تهم الشعوب والثقافات القومية ضمن حدودها المكانية والزمانية، مع اعتمادها على فلسفة فريدريك هيغل، حيث توظِّف الأفكار الفلسفيّة في نصوصها الأدبية لخدمة الموضوع الذي تتناوله. كما أنها لخّصت فلسفة كانط كلّها في صفحات ثلاث في رواية «عن ألمانيا». وذلك لتقريب الفلسفة من الجمهور العادي، وانطلاقاً من اقتناعها بأنّ كانط فيلسوف الحماسة الذي يصالح العام والخاص، ابتكرت دو ستايل فكراً جديداً واتّحد الأدب عندها بالفلسفة.
نفس الأمر ينطبق على أعمال “جورج صاند” التي كانت ترى أنّ دور الكاتب ليس هو الدفاع عن أفكار، بل إثارة أسئلة يبقى الجواب عنها معلّقاً. فرواية «سبيريدون» ترمز إلى تاريخ الانسانية، حيث يحضر “سبينوزا” و”فاوست” و”مالبرانش”، وتندمج مظاهر الحياة الأشد اختلافاً ضمن رؤية واحدة شاملة.
كما وضع كل من “الماركيز دوساد” و”غوستاف فلوبير” و”ميشال فوكو”، تخطيطا لعلم بلاغة يصلح لتحليل الفكر تحليلا عاما، وذلك من خلال تركيزهم على قضايا أسلوبية ترتبط بالتجارب الروائية، إنطلاقا من إيمانهم بفكرة جوهرية تنطلق من كون النصوص الأدبية يمكن أن تنتج مبادىء تهم المنطق والطبيعيات والأخلاقيات، وذلك انطلاقا من الإنفتاح على المقولات الموروثة من الفلسفة القديمة، هكذا طرح “الماركيز دو ساد” مسألة الحدود ونشر أدب التدنيس والإسراف والتدمير، واستخدم طرقاً جديدة لإدراك المواضيع التي طرحها، منها معنى الواقع الفلسفي والسيطرة والمتعة والسرد خصوصاً في كتابه «أيام سدوم المئة والعشرون.
أما غوستاف فلوبير، فكانت الكتابة عنده تجربة فكرية ينبثق منها درس في الأدب ودرس في الفلسفة. إذ يعالج مثلاً في «تجربة القديس انطونيوس» ضلالات الفكر الانساني حيث يعود طيف “هيغل” و”سبينوزا” أيضاً للظهور عنده إلى جانب أفكار داروين، والماديين الألمان.
الفلسفة ليست لاوعي الأدب لكنّها لاوعي الأدباء. هكذا يفتح الأدب للفلسفة آفاقاً جديدة ومجالات بحث. ويعود للأدب أن يقول ما يفكر به العصر عن نفسه مع ابتعاده عن أن يكون رسالة إيديولوجية. ألا يمكننا إذاً أن نعلن أنّ الفلسفة والأدب وجهان لخطاب واحد، يقدم كلّ منهما الأحداث والتغيّرات بأشكال متناوبة؟
يمكن التمييز إذن بين فلسفة الأدب حيث يكون هذا الأخير موضوعا أو مادة للمراجعة الفلسفية التي تهدف إلى الكشف عن دلالته الجوهرية، مثلما يتم الحديث عن فلسفة القانون أو فلسفة الدين، وبين الفلسفة الأدبية، وتحيل على مجموع الطرائق التي بموجبها يمكن للفلسفة أن تتعاطى للأدب وللأدب أن يتعاطى للفلسفة، الشيء الذي يؤدي إلى البحث عن أشكال علاقة فعلية بين الأدب والفلسفة.
إذا لم تكن الفلسفة الأدبية هي لاوعي الأدب فقد تكون لاوعي الأدباء، لأنها فلسفة بدون فلاسفة، وهي ليست فلسفة أديب معينة بل هي فلسفة تخترق مجمل النصوص الأدبية باعتبار أنها تؤلف كلا متباينا ومتضاربا بمعزل عن المؤلفين والمذاهب حيث الأدب هو الذي يفكر، إذ حل في العنصر الفلسفي السابق وجوده على وجود كل الفلسفات الخاصة.
يجب إنقاذ النص الأدبي من هيمنة النقد الشكلاني والرجوع إلى البعد الإنساني في العملية الإبداعية بدل الإغراق في الشكل. فالخطر الذي يتهدد الأدب اليوم هو التعليم الشكلاني الذي يلقن التلاميذ النظريات التي تتحدث بدلا عن النص، وتستمع إلى الناقد بدل الإنصات إلى المؤلف. وقد أكد “تزيفان طودوروف” أن مجموع هذه التعليمات-يقصد التعليمات الرسمية- تسعى إلى تحقيق هدف وحيد، و هو تعريف المتعلم بالأدوات التي يتم استخدامها في قراءة القصائد والروايات دون تحفيزه على التفكير في الوضع الإنساني، في الفرد والمجتمع، في الحب والكراهية، في الفرح واليأس، بل التفكير في مفاهيم نقدية، تقليدية أو حديثة. في المدرسة، لا نعلم عن ماذا تتحدث الأعمال وإنما عن ماذا يتحدث النقاد.
لقد وقع الأدب الحديث في شباك «الثالوث» المعاصر: «الشكل، العدمية والأحادية» و أصبح النقد غاية بعد ما كان وسيلة تساعد المتلقي على فهم النصوص والظواهر الاجتماعية، فانحرف عن وظيفته وسقط في الشكلانية. والأخطر من ذلك في نظر تودوروف هو «استيراد» المؤسسات التعليمية من ثانويات وجامعات لتلك النظريات النقدية الجديدة والتي عوض أن تؤدي رسالتها الحقيقية بدأت تسيء إلى النص الأدبي نفسه. إن الأدب الذي يُعلَّم في الثانويات والجامعات لم يعد يتحدث، عن الإنسان في العالم بقدر ما يتحدث عن نفسه وعن «الفرد» الذي كتبه. أما النقد الحديث فقد أصبح غارقا في «الشكلانية» مفتقدا للبعد الإنساني والبساطة، وهذان عنصران يحتاج النقد إليهما كل الاحتياج ليتمكن من التواصل مع قارئه ومع الكاتب صاحب النص.
نشير هنا إلى أن من أشهر المقولات الذي انتشرت في النقد الشكلاني والبنيوي تلك التي أطلقها رولان بارث حول موت المؤلف حتى يتحرر القارئ من سلطة الفاعل الأول الرمزية ويمارس نشاطه الإبداعي الذي هو القراءة . كيف يموت المؤلف وهو في نفس الوقت قارئ لنصوص أخرى؟ بل كيف يموت القارئ الأول ليعيش القارئ الثاني؟ ألا تعتبر مقولة موت المؤلف من بين المقولات التي أغرقت النقد في الشكلانية وأبعدته عن المضمون الإنساني؟
إذا كان نداء “تزيفان طودوروف” الذي ينبه إلى خطورة الوضع الذي أصبح عليه الأدب في العصر الحالي، موجها للنقاد والكتاب الفرنسيين والمؤسسات التعليمية والجامعات الفرنسية والقارئ الفرنسي. فهو كذلك موجه إلى كل المعنيين بالقراءة والأدب في العالم وخصوصا في العالم العربي الذي تأثر بصورة كبيرة بالتيارات البنيوية والشكلانية في الربع الأخير من القرن العشرين، إذ لقيت ولقيت انتشارا تجاوبا كبيرين بسبب تدريسها في الجامعات العربية واحتضناها في المؤسسات الثقافية.
المهدي مستقيم:أستاذ/باحث