ذكريات مع شكسبير

Boudouma
جمال بودومة

 يحتفل العالم بمرور أربعة قرون على وفاة شكسبير، العبقري الذي ترك إرثا مدهشا من الشخصيات والحوارات والمآسي والملاهي (غير الليلية)، مازالت تعرض اليوم في مسارح العالم بكل اللغات، كأن كاتبها يعيش بيننا ويتابع ما يجري من أحداث، بما يلزم من رصد وتشريح وشعر وسخرية. أب تلك العائلة الرائعة التي تضم “هاملت” و”عطيل” و”ماكبث” و”روميو وجولييت”… خلف أيضاً لغزا محيرا يتعلق بهويته، لا يقل غموضا عن ابتسامة الموناليزا، إذ بعد كل هذه القرون مازال السؤال مطروحا: هل وُجد فعلا شخص اسمه شكسبير؟ ما عدا الأعمال المسرحية التي وصلتنا وعددها يفوق المائتين، لا نتوفر إلا على بورتري واحد للرجل، بعينيه الصافيتين وشعره المسدول وشواربه الرفيعة، بالإضافة إلى أربعة عشر كلمة بخط يده، وكل ما تأكد منه الباحثون هو أن شخصا يدعى ويليام شيكسبير توفي في 23 ابريل 1616 دون أن يتحققوا إن كان الأمر فعلا يتعلق بمؤلف “حلم ليلة صيف” أم بشخص آخر يتشابه معه في الاسم.

 رغم ذلك، او بسبب ذلك، سيظل شكسبير أسطورة مسرحية عابرة للقرون والقارات. زار التاريخ في أعماله كي يحرك أقوى العواطف والغرائز الانسانية في شخصيات الملوك والأمراء والعشاق والطامحين الى الملك والطامعين في المال. يقول النقاد ان شابا لا يعرفه أحد، بلا نقود ولا مستوى تعليمي كبير، وصل من قريته الصغيرة الى لندن عام 1580، وفي ظرف وجيز أصبح اكبر كاتب مسرحي في زمنه وفي كل العصور. هل هذا ممكن؟ لا احد يستطيع ان يجزم بالأمر.

 

 على كل حال، تاريخ الأدب مليء ب”التناوي”، في كل الحقب. كثيرون شككوا في وجود عدد من الكتاب من هوميروس إلى أحلام مستغانمي. طه حسين، مثلا، لم يكن مقتنعا بوجود شخص اسمه قيس بن الملوح، المعروف ب”مجنون ليلى”، ومعه كل الشعراء-العشاق الذين أتتنا أخبارهم عن طريق الرواة خصوصا أولئك المنحدرين من “بني عذرة”. وحين تقرا أطروحة عميد الأدب العربي في الموضوع تغالبك الضحكة وتقول معه حق: قيس المجنون كان يسقط مغشيا عليه كلما لمح معشوقته ليلى بعد ان يردد بيتا او بيتين من الشعر… هل يعقل ان يوجد شخص يقضي نصف حياته “سخفانا”؟ أي حب وأي جنون وأي لفت محفور؟

 بعض الدارسين اعتبروا شكسبير اسما لمجموعة من المؤلفين. مارك توين، الكاتب الأمريكي الساخر، ألف كتابا يتساءل فيه “شكسبير أو ليس شكسبير” -صدرت ترجمته الفرنسية لأول مرة قبل ايام- خلاصته أن مؤلف الروائع المسرحية الحقيقي هو كاتب يدعى فرنسيس بيكون، عاش في نهاية القرن السادس عشر، وعرف بسعة ثقافته. وثمة طبعا من يرى أن شكسبير أصله عربي واسمه الحقيقي “الشيخ الزبير”، مع دعواتنا بالرحمة والمغفرة للعقيد معمر القدافي.

 شكسبير يملك سحرا عابرا للقرون واللغات. في باريس توجد مكتبة خاصة بأعماله قبالة كاتدرائية نوتردام، تغص بالزوار كل يوم. نفس السياح الذين يتدافعون أمام لوحة الموناليزا في متحف اللوفر ، يقفون في طابور طويل امام مكتبة الساحر الانجليزي على رصيف نهر السين. ولكل واحد “شكسبيره”، وفق الصورة التي كون عنه من خلال قراءة ومشاهدة أعماله. كثيرون يختصرونه في جملة واحدة : ” أكون أو لا أكون”، العبارة التي رددها “هاملت” بعد ان استبدت به الحيرة والشك وبات يتأرجح بين التردد والرغبة في الانتقام. “أكون أو لا أكون”، اصبحت مبتذلة من كثرة ما رددها الجميع، بكل اللغات، حتى الذين لم يسبق لهم أن دفعوا باب مسرح او قلبوا صفحات كتاب. وحدهم المبدعون يفتشون عن الأعمق، الكاتب الأرجنتيني لويس خورخي بورخيس يختصر شكسبير في ما ردده عطيل: “انا لست انا“!

 أنا، وأعوذ الله من قول أنا، لي قصة طويلة مع شكسبير. عندما أردت اجتياز مباراة الالتحاق بالمعهد العالي للمسرح طلبوا منا إعداد مقطع من إحدى المسرحيات العالمية مدته خمس دقائق. فتشت طويلا بين كتبي المبعثرة ولم اعثر الا على دواوين شعر وروايات قديمة وكتب نقدية صفراء، لا مسرحية واحدة في البيت فتشت في المكتبات المجاورة ولم أجد شيئا. كنت حديث السكن في مدينة حسن المنيعي ومحمد تيمود ورواد الخشبة، وعثرت اخيرا على جمعية ثقافية في الحي تملك خزانة فيها نسخ من سلسلة “المسرح العالمي”. شرحت لهم طلبي وأعاروني نسخة من السلسلة عنوانها: “بيركليس، أمير صور”. نسخة متآكلة من مسرحية عمرها أربعة قرون أحدثت انقلابا خطيرا في حياتي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *