الروائي

hamid el mesbahi
حميد المصباحي

 معنى أن تكون روائيا، هو الخوف من القول المعتاد كما الشاعر، هروب من الألوان كما الرسام، إنه الخوف من الصخب، دون التهرب منه، فالروائي يحمل معه الضجيج إلى غرفته المظلمة، يقلبه على كل وجوهه، باحثا عما لا يريد التصريح به، فلكل روائي أسراره الخاصة، وأسرار الروائيين غير متشابهة، هي تلك الدوافع الخفية التي لا يكتشفها الروائي إلا بعد الانتهاء من كتابة روايته، وربما مجموعاته الروائية، يظهر ذلك جليا تجاه النقد الأدبي.
عندما يشعر الروائي بقرب النقد مما يعتبره سرا، يدرك الروائي أن نهايته اقتربت، أي موته الإبداعي. ربما لهذا السبب يسعى كل روائي إلى أقصى درجات الكتمان، وإبداع أعمق الرموز وأكثرها غموضا وعمقا في تاريخ الوجود البشري لتصير بالنسبة إليه كلمة السر التي لن يبوح بها لأحد. بل إنه يتعمد أحيانا إخفاءها حتى على نفسه، حالما بأن ينساها إلى الأبد، كي لا يتعمق في سره الخاص. بل يظل باحثا عما لا يفكر الناس فيه عادة،هو وحده القادر على تأمل المعنى والتشكيك فيه في الوقت نفسه دون أن يصير فيلسوفا أو زاهدا متصوفا. فكيف يتأمل المعاني؟ الروائي مهووس بكل مالا يثير عادة، فهو يدرك صيرورة المعاني دون أن يتحكم فيها، تبدوا تجليا غير واضح المعاني، فيستبق التعبير عنها، بدون يقين،  حتى لا يتحول إلى كاهن أو سياسي دون طموح إيديولوجي يوهم غيره بكونه سيد أسرار اختطفها من السلطة العليا، دينية كانت أو دنيوية.

 ربما لهذا السبب يحدثنا الكثير من التاريخيين عن اكتشافات غريبة، كعثورهم على بعض المؤشرات عليها في روايات القدامى، لكننا في الغالب نكذب مثل هذه الإدعاءات، خوفا من أن يصير للروائيين كل هذا المجد. فنصطف أمام المكتبات باحثين في كم لا يحصى من الكتابات الروائية، مهملين كتب التاريخ والإيديولجيا وربما حتى السياسة. إن الروائي هنا يشترك مع الرسام التشكيلي في مثل هذا الغموض، فهو الآخر تجد رسومات في لوحاته توحي بالكثير دون أن تقول شيئا واضحا بما يكفي، كأنه يخط بريشته صورا لم يدركه إلا هو فيما رآه ويهرب من التعبير عنه بغير ألوانه وأشكاله مهما رجاه الوضوح وأهله. هو خط المزعج في التاريخ وربما حتى في المستقبل القريب والبعيد. وهنا لا بأس من التذكير ببعض الصور التي وجدت في الكهوف وجدران البيوت القديمة، وكانت فتحا لأسرار في الأنتروبولوجيا والتاريخ وحتى علم الفكر والرموز.

  لنعد للروائي فهو موضوعنا حاليا. يستمد الروائي هذه القدرة على الترميز من تاريخه المجهول، وربما غير المصرح به لذاته وغيره من الناس، هي قدرة الروائيين الحقيقيين، الهاربين من مثل هذه النقاشات والمماحكات المزعجة لهم. فالروائي من هذا الصنف تنشأ روايته في صلب عواطفه قبل أن ينضدها وتصير قابلة للنشر. إنه قبل ذلك يسكنها لزمن طويل،يحملها معه ويرغمها على البوح ببعض أسرار الناس الصغيرة، والتي حتما سوف تكبر يوما ما في غفلة من الكل، سادة وساسة وباحثين وحتى مثقفين، كما حدث دائما مع كل الروائيين الحقيقيين.

  كما أزعم أن للروائي،قدرة لا يدركها حتى هو، لكنه يستشعرها في لحظات سرعان ما تغيب عنه. فهي لا تخزن في الذاكرة، أو تنشأ في الذهن، أو تسقط فيما عرف باللاوعي، وما شابهه من التفسيرات النفسية وربما حتى الطبقية المرتهنة بما هو إيديولوجي. قد أخيب انتظارات النقاد الذين يعتبرون أنفسهم قادرين على فك رموز الفكر في الكتابات الروائية القديمة والحديثة. لكن الحقيقة كما قيل أحيانا ،لا تظهر إلا متأخرة حتى للروائي نفسه، وهو تجاه كتاباته الأدبية والفنية، التي تبهره، وقد ينسى معها الغايات الأولى، أي تلك الفكرة العامة والخطاطة التي وضعها قبل بداية الكتابة الروائية، فأن تكون روائيا معناه أنك تمزق من الكتابات الروائية التي تؤلف أكثر مما يصل لدور النشر. والسؤال، لماذا هذه المحاولات لا يعلن عنها الروائي؟ ويسعى باستمرار لعدم الكشف عنها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *