أَبُــو الـكَــذِب

 13077193_513158242225368_122710819_n

   لاَ أَذْكُرُ متُى أُدْمَنْتُ الكذِب. كُلُّ ما أعْرف أنّي لا أسْتطيع أنْ أَعيشَ بدُونه. في البِداية كَانت تكفيني كِذْبَةٌ في كُلِّ يَوم، وبعد ذلك صَار الأمرُ مُقرفا، مُملا. ثم ضَاعفت ذَلك إلى كِذْبتين؛ واحدة في الصَّباح وأخرى في المسَاء. ومع توالي الأيَّام وجدتني أرفع العدد قليلا، إلى أن صرتُ أكذب في كل دقيقة. لم يحزنني الأمر بل لكم أسعدني.كنت أكذب على عائلتي كما هم كانوا يَكذبون عليّ إلى أن بتُّ مُحترفا.حتى نفسي لم تصدق بأنني أكذب: أنت تقول الحقيقة ـ قالت لي ـ الجميع من يكذب.ومنذ ذلك الحين ترسخ في ذهني أنني لا أكذب البتة، أصبحت أصدق ما أقول، وإذا ما جادلني أحد أقنعه، وأظل أكرر حتى يقتنع.

   كان أبي يتوسم فيّ أن أكون سياسيا أو إعلاميا أو صحفيا. غير أني آثرت أن لا أشتغل لحساب أي أحد. على الأقل سأظل أكذب على نفسي، وعلى جمْع قريب مني، أفضل من أن أكذب على شعب بأكمله، وأحشو عيونه بالوهم. ومع ذلك فقد آلمني فيما بعد أني لا أستطيع أن أكون مشهورا، كما هم من أقل مني شأنا، وكنت كلما رأيت أحدهم اعتلاني غيض شديد وحنق موجع، وفاضت جبهتي عرقا، وصار وجهي كالحا، فإذا بي أحرك رأسي قليلا واضعا يدي في صدغي وأجمجم في نفسي: ما أغباني، لقد كان طموحي قاصرا.. وغد.. وغد .. أنا !

   أظل ألطم وجهي، ألطمه بشدة، عاضا شفتي السفلى حتى تفقد لونها العادي، ومغمضا عينيّ كي لا ترى ما أفعل. لم أفكر لمَ أُعذب نفسي، وأحملها سبب إفلاسي في الحياة، ولكن شيئا في داخلي كان يهدر، يفور، يغلي، ويوجعني بقسوة، ويحملني حملا على أن أكذب. غير أن هذا الحال لم يعد يقنعني، ويحقق لديّ لذة، لقد صار ألما في حد ذاته، توجعت كثيرا لأني لا أستطيع أن أكذب أكثر. أو على الأصح أن ينضج كذبي وأصير مثل السياسيين. إن هذا الأمر قد خلق لي عقدة رهيبة في ما بعد، ومهما حاولت أن أطور منتوجي إلا وفشلت في الأخير، ربما لم أكن ذا مهارة، أو أن غبائي لم يكن يسمح لي بذلك. في غرفتي التي تُطل على الشمس صرت أجلس منتحبا، مهيض الجناح، بئيس النظرات، مثخن القلب. الأكل أمامي يَنظر إليّ، نفسي جائعة، ولكن الكسل كان يقتلني: آه.. كم يلزمني من الكذب لأعيش!

   كثير من الناس يشبهونني، يكذبون ليعيشوا، ولولا ذلك لصاروا معدمين. أنا بدوري خُلقت لا أعرف الكذب، خرجت من الرحم أصرخ. ولم يكن صراخي كَذبا، كان العالم يرهبني، ونقطة الضوء التي تراءت لي حينها أفجعتني، لم أتصور بادئ الأمر أني سأعيش بلا مشيمة، لكن بعد مدة اكتشفت أن الكذب مشيمتي. لعلني ما زلت أذكر بداياتي الأولى في الكذب، وأغلب الظن أن ذلك كان في فصل الصيف، كان أبي نائما، وقد أمرني بأن أجلس بقربه أهُش الذباب المشاكس الذي كان يحب أنفه، وخاصة المخاط الذي يسيل منه. أهشه وأنا أضحك في نفسي، حتى إذا ارتفع صوتي لطمني: اصمت وركز في عملك.. إذا حطت على مخازني ذبابة واحدة سأجعلك تدفع الثمن. قال وهو يغالب النوم العالق بأجفانه. فجأة سمعت عقيرة رجل ينادي باسم أبي، وقد وصلني صوته الخشن فعرفت أنه جارنا القديم، تململ أبي: اذهب.. قل له بأننيغير موجود.. لا شك أنه يريد المال الذي أقرضني إياه.

غالبت جُبني، وببراءة تمتمت: لكنك في المنزل يا أبي.    

  ليتني اكتفيت بصمتي، ولم أنبس ببنت شفة، رأيت الشرر يتوهج في عينيه الناعستين. بسرعة البرق دفعني برجله الضخمة فوقعت أرضا. هذه هي تربتي التي ربيتك ـ قال مهتاجا ـ اخرج عنده وأخبره بأنني غير موجود!

   وكذلك فعلت، مسحت دموعي كي لا تفضحني، وأخبرت جارنا القديم بالأمر، أخبرني بأنه سيعود مجددا، ولكني في كل مرة كنت أعيد له نفس الحديث، إلى أن أصابه الملل، وبلغ به الغضب مبلغا عظيما، ثم إذا به يولي الأدبار خائبا، يضرب الأرض برجليه ضربا. وأبي في الداخل سابح في نومه، وغطيطه يملأ المكان. وبعد ذلك وجدت أن أمي تكذب بدورها على أبي، وقد عزمت  أن أصارحه بذلك، فيضربها أو يزجرها. ولكنها قرصتني بيديها القويتين في مؤخرتي وفخذي، حتى صرت أتلوى في مكاني، وأدفع الحصير الأخرق برجليّ الصغيرتين، وهي لا تنفك تقرصني، وأنا أصيح ملء الفم: وأمِّي الْعْزِيزَة..!

   رباه.. كم ألمني ذلك، وكأن حريقا قد شبّ في جسدي، فأرداني رمادا بئيسا. ما تزال بقايا ذلك جاثمة، ظاهرة للعيان كأي جريمة إبادة. أتلمسها من حين لآخر، فأقول: لا تقرصيني، لن أكون صادقا أبدا. أرغمتنيعلى أن أكذب عليه بدوره، فكذبت وأبدعت في ذلك!

ومع توالي الأيام صار أبي يكذب على أمي، وأمي تكذب على أبي، وأنا أكذب معهما وعليهما أيضا.

   كنت أعرف أن كثيرا من المياه لا بد أن تجري تحت الجسور، ولكن لم أع وقتذاك أنها ستجرفني، وجرفتني بقسوة. ولكن لكم كان يلذّ لي أن أكذب، بدأت حينها أصطنع قصصا، وأحكم التمثيل حتى ليخال المرء بأني صادق وهو كاذب. في طريقي إلى المدرسة تعثرت بصديق: إن أبوك توفي ـ قلت له ـ لقد داسته سيارة إذ أنا آت إلى هنا، ففطس على الفور، ونقل جثمانه إلى المقبرة ـ وبشيطانية أكثر أردفت: قد لا تلحقه إلا وقد دفن.

   وضع رأسه بين يديه وبكى، ذرف دموعا كثيرة.يا للمسكين كاد يهوي، أسندته بجانب سور، ولما ثاب إلى رشده، أطلق ساقيه للريح عائدا إلى  منزلهم كمجنون أخرس.

  أحسست بسعادة غامرة، نعم.. سعادة.. وأؤكد على ذلك،كان جسدي يهتز من فرط اللذة، نشوة لا توصف تلك التي غمرتني، مثل طفل صغير أحضر له أحد هدية صرتُ. وأمام باب المؤسسة نظرت فلم أجد الحارس، انتظرت حتى عاد، بادرته: أين كنت يا هذا، لقد سأل عنك المدير مرارا، ولما لم يجدك توعدك بكل الشرور، وقال بأنك مطرود منذ اليوم.

رد بصوت مختنق: .. ك..ن.. ت كنت أقضي أمرا..

   حسابك مع المدير ـ ببرودة قاتل قلت ـ اسرع إليه، وتمسح برجليه واطلب الصفح، لعلك تظل   حارسا.

فطفق يسير ليلقى المدير ونفسه تتقطع، وأنفاسه تتصاعد.

   إنني لا أستطيع أن أظل صادقاطرفة عين، وعلى الأرجح أن ثنائية صدق/كذب لم تعد تحتل أي مكان في ذاكرتي، إنني أكذب، بل فقط انقلبت هذه الثنائية عندي، الكذب بات صدقا، والصدق كذبا. أوف إنني أكذب مجددا، الأصح هو أنه اختطت لدي الحقيقة بالزيف، وعدت لا أميز بينهما بتاتا. لم تعد هناك حدود فاصلة، ولا حواجز تقطع الجسد الواحد.. لماذا هناك حدود بين كل وطن ووطن، منزل ومنزل، قلب وقلب؟

   أنا اخترت معاهدة “شنغن” ذات يوم بائس، ولا يمكنني بأي حال من الأحوال أن ألزم نفسي بالفصل بين الكذب والصدق. وحتى إن حاولت لن أقدر، الواقع يقول ذلك، وطموحي بأن أكون سياسيا أو صحافيا بل وحتى حاكما مازال قائما في نفسي، ويزداد يوما بعد يوم، يراودني هذا الحلم في يقظتي وفي منامي، وإنما هو ما يشجعني بأن أكذب أكثر، إذا لم تكن لديك نقطة ضوء تحارب من أجل أن تصل إليها فلن تنجح في حياتك أبدا. صدّقني، أو كذّبني. سِيان عندي.

   ذلك أملي، رجائي، متعتي التي لا محيد عنها، شهوتي التي تتّقد في داخلي.

  لا أعرف كيف انطلت عليكم كذبتي هاته، مع العلم أني منذ البداية، وأنا أصيح بأني أكذب كِذبة في كل دقيقة، لقد كذبت عليكم جميعا، لا تصدقوا شيئا مما قلت، وعلى كل حال كان لا بد أن تتذوقوا من عسَلي شَيئاً على الأَقل. ما أشدَّ لَذَّتِي فِعْلاً…!!

قصة قصيرة:

سـعـيـد الـفـلاق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *