التشخيص الواقعي للفضاء في رواية “بائع الشمع” للروائي محمد العربي مشطاط

غلاف مشطاط

يوسف كرماح

 تتميز رواية “بائع الشمع” للروائي والشاعر محمد العربي مشطاط  بأسلوبها الشيق البسيط ولغتها الجزلة البعيدة عن التعقيدات والألفاظ الحوشية ، فلغة المحكي تزاوج بين الفصحى والعامية في المقاطع الحوارية بالخصوص، التي تجعل النص منفتحا على فنون السمعي البصري سيما السينمائية والمسرحية، ومن خلال تسمية بعض المسميات بأسمائها؛ عبارات مثيرة جائعة وأوصاف مغرية لارتعاشات جنسية، وذلك لإضفاء لمحة أكثر واقعية على المحكي، مما يساهم في فتح جسور التواصل مع المتلقي وفتح عوالم للحوار مع الرواية ومناقشة أبعادها وخلفياتها الإيديولوجية واستنطاق بياضها المستور. رواية تقع  في 192 صفحة من الحجم المتوسط. يتابع فيها الروائي التنقيب في واقع مدينة طنجة البرزخية بعد ثلاث روايات: “شرف الروح” سنة 2009، “جحور وأوكار” سنة 2010، “لعنة الرحيل” سنة 2012 . وتتميز هذه الرواية ببعدها العبثي الساخر من الوضع الاجتماعي والسياسي، بتشخيصها لسيكولوجية الذات المقهورة والمقموعة في عالم مهمش، ما يجعل القارئ مشدودا بمغناطيس قوي لمواكبة تطور الأحداث والوقائع إلى نهايتها، هائما مع شخوصها وفضاءاتها وقضاياها التي تعالج إشكاليات الجهل والأمية والتخلف والفساد بشتى أنواعه. وهذه هي ميزة الأعمال الأدبية التي تهيمن فيها الحكاية (الأحداث) على حساب الخطاب (اللغة ) والابتعاد عن الكلام الفضفاض الزائد الذي يسرق العمل الأدبي ألقه. فمن مميزات العمل الجيد ألا تسرف الحكاية وتسهب في اللغة الزائدة والوصف الممل الذي لا يخدم المتن كما تؤكد المبدعة القديرة ليلى أبو زيد. 

    تعالج الرواية جملة من القضايا المتعلقة بالثنائيات الضدية؛ الفقر والغنى، الفساد الأخلاقي والاجتماعي، الميز الطبقي، بين فئة الكادحين والفقراء في حومة منيدر مثلا، وفئات الأغنياء أصحاب  الفيلات الفاخرة بحي مسنانة والسوق الداخل من خلال التاجر المراكشي الذي عمل عنده السارد في ورشة الجلد، ومن خلال الشخصية الرئيسة (بائع الشمع) الذي تحول من حمال مشعوذ إلى برلماني من أثرياء المدينة.  فهي رواية تنتصر لعالم المقهورين وتشكل ملحمة يعزف سمفونيتها المهمشين ، فهناك هيمنة احتكارية لشخوص الهامش ، فالرواية مرتع للمشردين والمسحوقين والمنبوذين والشواذ، يؤمهم الفضاء الشعبي وما يتخلله من انحطاط وهشاشة وإقصاء.

   كما تزخر الرواية كذلك برصيد معجمي وافر يتناول الطابو المحظور، ما يجعلها تروم الفئات المهمشة وتترجم وضعهم وتدافع عن واقعهم، فالتعابير المحظورة والمتهكمة ما هي سوى أنساق لغوية تترجم وتحاكي بثرائها المعجمي عوالم القاع الاجتماعي الصدئ العفن. يقول السارد ” ولاد القحاب فين ما كانت شي بنت هاهما موراها…تكرفستي عليها من اللور…لأول مرة أقوم بالإيلاج والدخول في امرأة…”.  فهي رواية تشكل بريشتها ما يسمى بجمالية القبح من خلال نقل هموم وعري المجتمع في سياق لغوي ساخر ينضح بالتشويق والإثارة.

   كذلك تعالج الرواية  إشكالية البطالة “في زمن أغلقت فيه الوظيفة في وجه البسطاء، وأصبحت المناصب صغيرها وكبيرها معروضة للبيع والشراء في الأسواق السوداء.”، كما يتم مناقشة قضية الشعوذة والمسلمات والمعتقدات التي ما تزال هذه الأمة تتخبط في مستنقعها؛ كزيارة الأضرحة والتبرك والتوسل إليها من أجل قضاء الحاجيات والمآرب. لكن تظل قضية رئيسة مهيمنة في النص بأكمله تتعلق بمدينة طنجة وفضائها الشاسع والغني بالحكايات والوقائع . فالسارد يحاول أن يعبر عن واقع طنجة هذه المدينة التي تنهل من عبق الشرق وسمرة إفريقيا، الواقع الذي لم يتزحزح سوى إلى الأسوأ منذ أن كانت مدينة دولية. ففي اعتقاد السارد أن هذه المدينة لا تتغير سوى إلى الحضيض، يقول البطل في ختام هذه الرواية ” ما تزال حومة منيدر تزخر بتجارة الرضع… ما تزال المومسات تتسللن في جنح الظلام باتجاه الأوكار والحانات الرخيصة… ما يزال الحمق والجنون يحصد العشرات… ما تزال عصابات الأحياء المدججة بالسكاكين والسيوف الحادة والسواطير… محدثة الرعب والهلع في السكان والزوار… وما يزال الشواذ والمخنثين يتكاثرون كالفطر ويطالبون بالشرعية.” إذا تأملنا هذا القول جيدا سنستشرب الفرق بين طنجة الأربعينيات والخمسينيات والستينيات التي تحدث عنها شكري في أعماله الخالدة وتحدث عنها الكاتب الأمريكي بول بولز الذي استهوته بعد زيارتها فقرر العيش في أحضانها حتى وفته المنية، وبين طنجة الألفية الثانية كما يصفها السارد البطل ، فهو غير راض عن واقعها ويرثي حالها ومجدها الضائع، فطنجة الصبا والطفولة ليست هي  طنجة الرشد والبطالة والفساد.

    لكن اللافت للنظر في هذه الرواية يتعلق بسحرية الفضاء والاحتفاء به، وهذا يتجلى من خلال تشخيص السارد الممثل لفضاء طنجة الواقعي بأزقته ودروبه وشخوصه، ومن خلال تشخيص اللغة أي توظيف اللهجة المحلية بشكل مكثف. فنجد “حومة منيدر”  التي تعتبر بمثابة الخشبة التي تتمسرح فيها الأحداث تهيمن تقريبا على متن الرواية بأحداثها وشخوصها ووصفها، فالسارد ينطلق من هذا المكان ليعود إليه في الآخر، وبالمناسبة فهذه الحومة الوحيدة في المغرب التي عمرها اليهود ولم تسمى بالملاح وليس غريبا أن تكون بجانبها المفوضية الأمريكية وسينما ميركان . مما يزيد من تأكيد فرضية تشبث السارد بالمدينة القديمة رغم ابتسامة الحظ وتيسير أموره، يقول: ” كنت أزور حينا بحومة منيدر دون انقطاع ،فنحن رغم الرحيل لم نبع بيتنا هناك…”. كذلك يظل الاحتفاء بأمكنة المدينة القديمة حاضرا من خلال “فندق الشجرة”، وهو بالمناسبة سوق الدراويش والفقراء في مقابل “سوق بلاصا” سوق النخبة وأثرياء المدينة. هذا إلى جانب توظيفه لباحة السوق الداخل ومقهى سنترال الشهير حيث تعج الحركة بالسياح والزوار من ربوع المملكة وتنتعش الحياة بالمدينة القديمة المطلة على الجنة المفقودة التي يفصلها بحر لئيم كما تصفه أم السارد في هذه الرواية. بالإضافة إلى بعض الأماكن التي تحف المدينة كضريح سيدي عبد القادر ومولاي عبد السلام وسيدي بوزيد، شاطئ السطيحات وغابة الرميلات وشاطئ أشقار الذهبي ومنطقة يلان حيث بيت الشريفة التي سلمت السارد الكنز. إذا تأملنا هذه الفضاءات فإنها تموج في سماء طنجة المدينة البرزخية، وأن الرواية برمتها تتمسرح في فضاء طنجة الأسطوري، هذا إذا استثنينا حكاية السرجان التي تنتقل تدريجيا من مطار العيون باتجاه مطار البيضاء والحديث عن الانتفاضة الشعبية التي شهدتها العاصمة الاقتصادية سنة 1965، وصولا إلى مطار ابن بطوطة بطنجة، فالأماكن متعددة لكن الفضاء الأساس هو طنجة. وتجدر الإشارة إلى أن جل أعمال الكاتب الروائية لا تخلوا من فضاء طنجة ولا تبتعد عن أرجائه، وهنا إشارة قوية تحيل على الارتباط الوثيق بالمحيط الاجتماعي من جهة وبالفضاء من جهة أخرى. فالكاتب يوقع ميثاقا مع المدينة مكللا بالوفاء والولاء  باصما اسمه بمداد القلم في أرجاء هذه المدينة كما بصمه نجيب محفوظ مع القاهرة وحنا مينه مع اللاذقية، ومحمد شكري مع طنجة ومحمد زفزاف مع القنيطرة ومحمد برادة مع الرباط وألبيرتو مورافيا مع روما…إلخ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *