البلاغة العربية والهوية الثقافية والفكرية للأمة…أية أدوار ممكنة؟ وبأي فهم؟

12895420_10204919403339661_288621274_n

الدكتور محمد العمري  يشرح واقع وآفاق ورهانات البلاغة العربية بالرباط

    احتضن فضاء مدرج الشريف الإدريسي بكلية الآداب والعلوم الانسانية بالرباط، بمبادرة من ماستر “الأدب العربي والمثاقفة”، جلسة علمية مع قيدوم البلاغة العربية ورائدها المقتدر، الدكتور محمد العمري، تحت عنوان: “البلاغة العربية من الانتشار إلى الانحسار”.

   استهلت المحاضرة بتقديم لمنشط الجلسة الدكتور عبد الخالق عمراوي، عرّف فيه بالضيف واحتفى به احتفاء يليق بقامة علمية سامقة أنفقت ما يزيد على ثلاثة عقود في خدمة البلاغة العربية وعلومها، وبعد ذلك تم عرض مقطع فيديو يؤرخ لمسار المُحتفى به، المعرفي والشخصي…

   وقد أبحر الدكتور محمد العمري في تاريخ البلاغة العربية، منطلقا من الإرهاصات الأولى، ومرورا بزمن التأسيس وصولا إلى زمننا الراهن، وقد طرح مجموعة من الإشكالات التي حاصرت البلاغة على مستوى  التنظير والتلقي.

و شدد العمري على أن بحثه في مجال  البلاغة جعله يشعر دوما بصغره معرفيا، فبعد أربعين سنة ما يزال العالم في ثوب المعلم طارحا بعد ذلك سؤال الماهية – ما البلاغة؟

12895520_10204919403179657_1410109279_n

    وأشار إلى شمولية البلاغة العربية واتساع مفهومها، لتتجاوز البلاغة البيداغوجية (المدرسية)، وما يعتريها من نقص في المادة، وغياب للأصول التقعيدية، وأشار أيضا الى ضرورة وضع روابط بين القديم والحديث عن طريق التدليل، ووجب التعريف قبل التنسيق، ووجود ذات مستقلة لتلافي التلفيق، وعندما يحضر التنسيق كما الشأن عند حازم القرطاجني، لا يجب إغفال السؤال المعرفي أي سؤال الماهية.

    ثم انتقل بعد ذلك للحديث عن قيمة البعد الحواري من أجل التحصيل المعرفي، والبعد عن الأسئلة الفيلولوجية العقيمة –الذاتية والنرجسية-، ثم استطرد في الحديث عن البلاغة العربية التي تغيب فيها الأسس البلاغية من قبيل كتب الجاحظ، وابن رشد، وابن سنان ..

    وأكد الدكتور العمري أن سبر أغوار البلاغة والمتح من مدركاتها، ما دامت سابقة للتقعيد اللغوي نظرا لبعدها التاريخي، موضحا أن ظهور البلاغة بدأ مع غريب الكلام، والذي يوصف صاحبه بالساحر والكاهن ..الخ، ثم جاء بعد ذلك سؤال الماهية، وتلاه عنصر التمايز، ليتحقق الوجه الأول للبلاغة، والمنحصر في  المحسنات وصور البديع، والمكونة من الاستعارة، التجنيس، الطباق، وردّ الأعجاز على الصدور، والمذهب البلاغي(الحجاج)، وقد ضاع هذا الأخير بضياع المقام، وهذا في حد ذاته مسار، أما المسار الآخر، فهو مَعْيَرَة اللغة وأوله التوسع في اللغة مع سيبويه، وظهور المجاز مع ابن عبيدة (الطرق الثانوية)، ثم الجواز وشجاعة اللغة مع ابن جني (المجاز)، ما يجعل البلاغة أولها استعارة وآخرها جبر كما يذهب الدكتور العمري.

    أما المسار الثالث، فهو مسار الجرجاني مع النظر في النص القرآني، والسؤال الأول الذي طرح هو سؤال الاختلاف، وقد صبّ في هذا المصب منبع حوار الحضارات والإقناع من خلال ما جاءت به الثقافة اليونانية من أساليب إقناعية، من خلال إنتاج المعرفة وطرق التداول، وتحوّل البيان مع الجاحظ الى الخطابية، المنشقة من “الريتورية الأرسطية”، وقد أقر الجاحظ أن البيان هو الفهم والإفهام بطريقة متميزة.

12476379_10204919403259659_1850388470_n

    وما فتأ العلامة يلمح الى نقصان ما جاء به القزويني، كون البلاغة البيداغوجية يغيب عنها سؤال نظرية الأدب ( نظرية الخطاب)، نظرا لغياب الأسس كابن رشد (الذي وضع عمود البلاغة)، وتلافي أرقى ما وصل اليه حازم قياسا مع البلاغة الحديثة، وإلغاء آراء الجرجاني- المعلم الثاني بعد أرسطو- باعتباره  مختبر العرب في مجال المحاكاة حيث وجعل البلاغة في المعاني وليس في الأصوات، وطبقت في أسرار البلاغة.

    ثم انتقل المحاضر نحو التمييز بين الغموض الدال (مهما كان مبنيا) والغموض البليغ (الوضوح البليغ البسيط)، وقد شبه المتلقي البالغ الذي يغوص ويقطع الانفاس، لكن يجب أن يحصل على الغنيمة المحار ..وهنا أعاد  الاعتبار للفظ أيضا، وهو ما يشير إلى ما يسمى ببلاغة النظم، وقد لخص كتاب الأسرار وسماه العدول، وهو الجناح الثاني الذي بنيت عليه البلاغة الجديدة (المستوى التداولي)، والبلاغة توجد في اللفظ والتركيب، أي ما لا يتساوى فيه الناس، وقد أشار إلى أن اللفظ الذي يحمل التمثيل ويضيف جمالية على مستوى المعنى كقوله تعالى “اشتعل الرأس شيبا”، اي احترق السواد وأصبح رمادا فهي أبلغ من اشتعل الرأس بالشيب”، لقد أخذ الجرجاني من اللسانيين كابن جني ومصادره، وكذا القاضي عبد الجبار وامتداداته، وكل المنابع الأخرى، وأعطانا البلاغة بجناحيها.

   وقد استطرد المحاضر قائلا: “المسافة بين الصدق والكذب هي مركز البلاغة”، وهذا البين هو الذي وصفه حازم باقتدار، أما الجرجاني فقد أنتج علم الأدب في “مفتاح العلوم”، ولا يخفى علينا أن الادب عند العرب يكمن في الشخص الموهوب.

   في حين أن القزويني (الزمن الثاني) قتل البلاغة وجرّدها من جميع أسئلتها، نظرا لانتشار المقامة، وأعطى للبلاغة نفس دلالات المعنى مراعاة للمقامة، وأصبحت البلاغة خارج السؤال الفلسفي والنظر الديني…

    كما أكد المحاضر على ضرورة الأخذ بعين الاعتبار مفهومي المقام والاختيار، كونهما من مفاتيح البلاغة، ويؤدي عدم وجودها إلى كسر الأبواب والنوافذ أو إتيانها من السطوح، لذلك وجب مراعاة المقام وله ثلاث معان: مقامان رئيسيان وآخر احترازي، وهذا الأخير يكون عند المجنون الذي لا يراعي المقام والآخران: مقام خطابي تداولي، ومقام عام خطابي.

   وقد خلص المحاضر في الأخير إلى أن البلاغة تظل خطابا احتماليا مؤثِّرا، احتمالي لأنه مرتبط بالآخر، ومؤثر لأنه ذاتي ويحمل في طياته عوالم التخييل.

    وقبل الختام تفضل الدكتور المسيّر بخلاصات ثاقبة نافذة، قبل أن يفتح باب المناقشة، ليتم إفساح المجال للعديد من المداخلات القيمة والأسئلة المهمة التي تنبع من صميم الاشتغال والتهمم بالدرس البلاغي العربي، وبارتباط مجال البلاغة بالحياة الفكرية والعقدية وسائر مظاهر الحياة العامة للأمة العربية، ليتدخل الدكتور العمري في الختام مجيبا عن الأسئلة وفاتحا أبواب أخرى على مزيد من التفكير والمعنى، متحدثا عن أدوار البلاغة في الدفاع عن الهوية ومكافحة ظاهرة التسطيح والنصوصية المنغلقة التي تشجع على التطرف وتسهم في تنامي ثقافة الإقصاء والتكفير والعنف.

   ومسك الختام كان بتقديم هدية رمزية للمحاضر، عبارة عن لوحة بها بورتريه شخصي له، وباقة ورد تقديرا وتشريفا لمساره العلمي الزاخر بالعطاء.

—–

تقرير سعيد أوعبو

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *