
في هذه الأيام الصعبة في عالمنا العربي، نبدو كما لو أننا نعيش في العصر الأول للحضارة السورية الذي أنتج أبجدية اللغة.. أي معرفة كيف يصوغ الإنسان أدوات المعرفة لذاته وللذوات الأخرى.
يرحل اليوم الصديق جورج طرابيشي الذي كان ظاهرة في مشروعه الفكري، وكان من الداعين إلى تعميق أدواتنا المعرفية القائمة للدخول في قلب التحولات الجديدة التي يشهدها العالم. والعمل بشكل جدي لفهم تنظيم «داعش»، ومن انتجه وصاغه وعممه.
لقد ألح الراحل طرابيشي على ضرورة تفسير الأصوليات الجديدة بامتلاك أدوات لغوية أكثر عمقا، كي يتاح لنا امتلاك ما هو قريب ولكنه بعيد، أعني خصوصيات الإنسان. من هنا لعله من المطلوب الآن أن نستنبط منظومات منهجية أكثر حداثة.
هناك سؤال: أين نضع ذكرى فقد جورج طرابيشي اليوم وفي أي سياق، لنقترب من موضوع بحثنا ومواضيع أخرى جديدة. لقد اهتز عرش الفكر العربي والعالمي في مواقع مهمة بخسارة محمد عابد الجابري سابقا، وجورج طرابيشي راهنا. كتب جورج طرابيشي عن الجابري وأفاض به في كتابته، وكان نقد الطرابيشي ساحقا في التاريخ العربي، بحيث ان الأمر ظهر وكأنه يمثل حالة فريدة، والسؤال الأكثر شرعية اليوم، هل الأدوات المعرفية والنقدية التي اتبعها الجابري والطرابيشي معا ما زالت فاعلة؟ هذا بالطبع إذا كانت قد أنجزت مهماتها بالكيفية المناسبة.
استمدت العقلانية الجابرية كثير من ادواتها من الغرب، وكذلك الأمر عند الصديق طرابيشي، خصوصا حول ما طرحه عن العقلانية عند فرويد والغرب وما تعرض له بعد ذلك في إطار العقلانية العربية ودراسة تحرير المرأة في ضوئها. لأنه يبدو أن ثمة ما لم يعرض لنا سابقا ويحتاج الآن منا إلى تدقيق رؤية المعرض وتعميقه.
لقد شكلت وفاة المفكر جورج طرابيشي مأساة للأهل والأصدقاء، وأزمة للباحثين في ما أنتجه هو والرعيل الذي انتمى إليه، لهذا علينا فهم جورج ونتاجه لأن هذا يوفر نقلة تاريخية في فتح الممكنات المنهجية والمعرفية.
الطيب تيزيني