المصائر والبصائر العرب في مواجهة مساحات النقاش؟

 

واسييني

واسيني الأعرج

 عندما تغيب البصائر الحية والنافذة، ترتسم المصائر بشكل مفجع. ليس في هذا الكلام أية مجانية. في عالم صعب وغير متكافئ، وفي ظل الهيمنة السياسية الأحادية القطب، كل محصلة نهائية ستحمل بالضرورة سمة الاختلال نفسها في العلاقات بين الأمم والقوى وحتى الأفراد. من يتحكم في الخطاب اليوم، أو من له القدرة على تمرير خطابه وما هي السبل لذلك؟
 الكثير من الخطابات العادلة لا تتعدى مسافة القناة التي تبثها، والكثير من الخطابات الهمجية الظالمة تمر بسهولة بشكل حضاري لأنها تتكئ على سند سجالي وإعلامي حِرَفي يمسح كل نقاط ضعفها والعناصر المدسوسة في صلب الخطاب. كل شيء يفرض على العرب اليوم مشفوعاً برؤية مسبقة لذلك ولهذا يجد العرب أنفسهم داخل المبادرات بدون أن يكون لهم دور ولو ثانوي فيها. هل نستطيع أن نقرأ أنفسنا في هذه النقاشات التي تبدو كأنّ العرب هم من ابتدعها بينما هم تلقوها من غيرهم الذي يعيد تشكيلهم من خلالها، وفق معطيات المصلحة الغربية الاستعمارية الكبرى؟ الغريب هو أن بعض ردود الفعل العربية تحولت مع الزمن إلى ردود فعل لا تحكمها حتى إرادة الفعل. مستسلمة لمنتج الخطاب وكأنه القوة الإلهية على الأرض.
 كنت مع أديب مغاربي يكتب باللغة الفرنسية في ندوة أوروبية، في إيطاليا: قال وهو ينتقد القصور العربي: علينا أن ننتبه لمشكلات إنسانية كبيرة: مشكلة دارفور، ومشكلة التيبت التي نسيت تاريخياً، والإبادات الجماعية التي تدور رحاها في أمريكا اللاتينية مع مجموعات الفارك الإرهابية؟ بشكل لاشعورى قلت متمماً كلامه: ومشكلة الشعب الفلسطيني الذي يواجه إبادة جماعية حقيقية في غياب كلي للقانون الدولي بل وتواطئه مع الأقوى؟ ظناً مني أنه نسيها في عرض حديثه السريع والشفهي؟ قال تلك القضية لا تحل إلا بحل إرهاب حماس والذين يقصفون دولة ديمقراطية مهما كان خلافنا معها من الناحية الأخلاقية؟ واصلت في منطقه نفسه الذي افترضه كأرضية للنقاش: طيب وإرهاب الدولة المبني على قناعات توسعية تكاد تكون دينية أو شبه دينية؟ ثم ختم بأن الموضوعية تحتم علينا بأن نكون عادلين وخارج الأحقاد التاريخية. قلت وأنا أحاول أن لا أصطدم معه إذ كنا العربيين الوحيدين المدعوين لتلك الندوة: أي أحقاد تاريخية أمام محتَل متغطرس، ومن سرقت أرضه؟ انتبهت بعدها إلى مسألة في غاية الأهمية. هناك مشكلة كبيرة تتعلق بالضبط بهذا الموضوع، أي بمساحة النقاش الإنسانية الحيوية: الديمقراطية؟ الإرهاب؟ الاحتلال؟ الدين؟ الدولة؟ الصراع الدولي؟ حماية البيئة؟ الدين؟ المجتمع المدني؟ حقوق الإنسان؟ السيد كان في مساحة صنعها له غيره وهو يتحرك فيها بحرية وديمقراطية مشروطة بسلسلة من المسبقات.
 يبدو كأن العرب لا يفكرون بصوت مسموع في أية مشكلة تخصهم وهو شيء قاس لا يساعدهم مطلقاً على الخروج من الدائرة التي خُطَّت لهم من طرف القوى العظمى. مشكلة الماء مثلاً لماذا لا تشكل اليوم انشغالاً عربيا ًحيوياً؟ لما لم يؤسسوا لمساحات نقاشية حولها؟ لا أحد غيرهم يفترض أن يتنبه للمصير المفجع الذي ينتظرهم في هذه المسالة فقط.
 الأفارقة ربما كانوا أفضل منا على الأقل في نخبهم. يعرفون جيداً أن الإبادات القادمة والحروب المدمرة والتمزقات الداخلية سيكون سيدها الماء ولا شيء آخر. الكثير من مدننا أصبحت تعاني من قلة هذه المادة. بعضها جف والبعض الآخر لن ينتظر كثيراً ليدركه الخراب. وسيضطر سكانها إلى الرحيل إذا لم تبلور حلول بهذا الاتجاه؟ ولن تبلور في الواقع المرئي بسبب الحروب العربية التي حولت البلاد العربية إلى مزق صغيرة ورماد ونثار.
 إسرائيل بنت كل مشروعاتها على إستراتيجية الاستيلاء على مصادر الماء لأنها تدرك جيداً شحه في تلك المنطقة تحديداً. تركيا تفكر في مشروع ضخم للسدود مما يجعلها على رأس دول المنطقة في تحديد المسارات السياسية والتاريخية للمنطقة في وقت ستضطر مصر والعراق وسوريا، إذا خرجت من رمادها وأصبح صوتها مسموعاً، إلى أن تخرج من مجرد الخطابات البسيطة لتذكير تركيا وإثيوبيا بأن المياه ملكية إنسانية والعودة إلى اتفاقيات القرن الماضي.
 المصالح الضيقة بدأت تتأسس شيئاً فشيئاً والأنانيات تزداد وتتعمق والعرب لا يرونها أبداً. ما هي الإستراتيجية التي نتعلق بها لافتراض الحلول القادمة، وأي النقاشات تمت في هذا السياق؟ نحتاج لخلق مساحة نقاش حرة وغير مرهونة بالإرادة الغربية؟ لأن يدخل المختصون العرب، في محاورة جادة حول هذا الموضوع لأنهم ليسوا قادرين في الوقت الحالي على الأقل، على إنتاج الماء بعد أن جفت المنابع القديمة. صحيح أن مصافي تحلية مياه البحر تسد بعض النقص، لكن في عز الحروب الأهلية المدمرة التي ستشمل الجميع، لأن عناصرها الأولية مبثوثة في كل الأرض العربية إذا لم يتم استدراكها، من يضمن حمايتها؟ من يشغلها في ظل انسحاب التقنيين الأجانب بسبب الحروب؟ من يضمن قطع غيارها واستمرارها؟ من يحميها من قصف جوي عدو يحولها في ثانية واحدة إلى خراب؟ هل مصير العرب في النهاية هو الموت والتلاشي؟ طبعاً لا مادام الإنسان يفكر؟ التفكير لم يعد اليوم رفاهاً ولكنه أصبح حاجة حيوية. لهذا فخلق مساحات جديدة للحوار يبدو اليوم أكثر من ضرورة قصوى.
 منظومتنا السلطوية للأسف تغيب فيها الحكامة والرؤية البعيدة. فهي تحمل كل سلبيات النشأة الطبيعية يضاف لها غياب الاستراتيجيات الفعلية. المحاورة في الموضوعات الحيوية ليس هدفها الأساسي وخيارها البعيد. أن لا تعمينا ازدواجية الغرب الجشع بما نعانيه. لا نستطيع أن نكتفي بالقول إن الغرب هو المتسبب في مآسينا. لنا مسؤولياتنا الكبرى. ولا يمكن أن ننزع من مساحات نقاشاتنا فكرة أن هذه الأرض تهمنا أيضاً. معنيون نحن بكل شيء حتى العظم، حتى الاحتباس الحراري وجنون الطبيعة. لا غرابة، إن بقيت الأوضاع على ما هي عليه، أن نستيقظ يوماً بين الناطحات والأبراج في مدننا الكبيرة، نبحث عن قطرة ماء ولا نجد من يمنحها لنا. ليس هذا خيالاً روائياً مجنحاً أو مرضياً، لكنه عين الحقيقة الغائبة. هناك موضوعات حيوية على العرب أن يكونوا السباقين فيها لفتحها، لأنها تهمهم حيوياً، وتهم الأجيال القادمة نحو عدم يرتسم في الأفق، إذا لم يتم تداركه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *