يوسف كرماح
قبل أيام غادرنا عراب المسرح المغربي الطيب الصديقي بدون رجعة، تحسرنا على رحيله وبكيناه في صمت كما تبكي أم ثكل، لن أضيف عنه شيئا، لأنني لا أعرفه سوى من خلال بعض المسرحيات المكتوبة التي صادفتها عند بعض الأصدقاء وبعض الحوارات الصحفية، لأن مكتباتنا الجامعية لا تهتم بالمسرح ولا بالفكر التنويري، ومكتباتنا العامة لا تتوفر على النسخ الكافية، ولأن قنواتنا تطمسه وتطمس كل شيء نزيه، تُشغل الناس ببرامج الصرف الصحي وبمسلسلات الفظاعة والخلاعة، وبأخبار المشاريع الوهمية التي ينهبها الساسة اللصوص. ولست وحدي من يجهل الكثير عن مسيرة الرجل وإن كان من الأسماء الغنية عن التعريف، فجيلي أيضا يجهله، وبالكاد تَعَرَّفَ على اسمه وسأل عنه لما انتشر خبر وفاته، ولربما استعان بالمواقع الاجتماعية لمعرفة تَرِكته الأدبية والفنية والمسرحية، لأن السياسة المتواطئة غيبته كونه كان يعتبر كلمة المثقف أعلى من كلمة السياسة، وأن السياسة من يجب أن تخدم الثقافة وليس العكس، وهناك من حكى عنه بسوء في صفحته الإلكترونية ولم يعر ” أذكروا أمواتكم بخير” اعتبارا، لأن الرجل كان لاذعا في رده، لا يقبل مقايضة ولا نفاقا، وكان مستقيما في عمله، مدافعا عن قناعاته الفنية، مؤمنا بالوقت كما لو كان تربى في الصين. هذا ما عرفته عنه في سيرة “الرحيل” للعربي باطما، أحد رموز مجموعة “الغيوان” التي انبثقت من رحم مسرح هذا الراحل عنا، الذي لم نتفاجأ بغيابه، لأن المتتبعين كانوا على علم بمرضه، أما المسؤولين فقد نسوه وتناسوا مرضه.
وقبل الطيب الصديقي ودعنا في هذا الموسم، في غفلة منا كذلك، ثلة من المبدعين: الأديبة والسوسيولوجية فاطمة المرنيسي، الناقد مصطفى المسناوي، القاص إبراهيم زيد، الباحث محمود ميري، وفي العالم العربي ودعنا كذلك الأديب الكبير إدوارد الخراط وجمال الغيطاني من مصر، وربما هناك أسماء أخرى لم نلتفت إليها سرقها منا المنون. ربما هذا زمن الرحيل الذي زهد فيه المثقفون وسئم منه البسطاء. سنذكرهم لفترة قصيرة، سنتناقل أخبارهم جميعا، وستملأ الصحف بتأبينهم وتكريمهم، وستلتفت إلهم المؤسسات والجمعيات الثقافية المتلهفة لحصد الدعم، ليس إلا، وربما التفتت السلطات والوزارة إلى أحد الأعلام ونصبت اسمه على شارع مقفر مخيف، أو على ناصية مؤسسة مهمشة، أو على رأس مدرسة بقرية نائية. سنذكرهم جميعا في مقالاتنا وفي إبداعنا وسنبكيهم في صمت على غياب فكري ترك فراغا، هذا إن لم ننساهم وكأنهم لم يكونوا هنا ذات زمن ولم يفرشوا طريقنا ببصمتهم الأدبية، وسنطرح السؤال التالي: ماذا بعد هؤلاء؟ ما هو مصير الثقافة بعد رحيل جيل الرواد الذي وإن فشل في صنع مستقبل مشرف إلا أنه بصم اسمه في تاريخ ثقافي احتاج إلى نضال وعبقرية لقهر الصعاب؟
هل سيستطيع جيل التكنولوجية المتطورة، جيل الهواتف الذكية الذي ينسى أصدقاءه قربه في المقاهي وينسى أقرباءه في البيوت وينشغل مع الافتراضي، أن يخلق تاريخا ثقافيا جديدا مشرفا يرفع راية هذه البلاد في المحافل الكبرى؟ هل سنحفل بجيل يوحد القومية العربية ويحرر فلسطين وينبذ الديكتاتورية المريضة ويحصد لنا جائزة نوبل في شتى الميادين لا جائزة الخراب والفساد؟ في انتظار هذا الحلم المضطرب، نأمل ألا تكون هذه الأسئلة مجرد وهم لن يتحقق منه شيئا، وهلوسة لن تنزل علينا بالمظلات، وإنما تحتاج إلى رعاية مهمة للثقافة من الأجهزة المسؤولة، وإن لم يتحقق فعلى المبدع المثقف الحقيقي أن يبحث عن خلوده بعيدا عن الأبراج العالية التي يرتكن فيها وينغلق على نفسه ويهتم بقططه وكلابه، وعليه أن يُكْرِه السياسية على الخضوع، وإدراك أهمية الثقافة في المجتمع، لا أن تبقى مهمشة ومنسية، ونحن نودع جيلا من المبدعين رسم أحلاما في أعماله بدون أن يحفل بنزر منها.
الثقافة اليوم تعاني جملة عراقيل ومشاكل، خصوصا بعد انصهار جيل من المناضلين والمفكرين في رحيق المناصب السامية، ونسيان ماكر وجاحد لفضل الأدب، أحد ركائز الثقافة، الذي كان يخشى عنه تودوروف من مخاطر التلاشي والنسيان والجحود. ولكن بالإرادة والطموح والحب ستحيا وتنتعش الثقافة، لأنها البساط الأساس، كما كانت في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، في زمن كانت الثقافة تروج كالخبز وكان الرهان الاجتماعي والسياسي والاقتصادي مبني على أساسات الثقافة، أما اليوم فرغم المعاناة والتهميش الذي يطال الأسماء المثقفة ويتعداها إلى الفنون الأدبية التي تعتبر مهد الثقافة إلى جانب باقي الفنون الأخرى التنويرية، فإن باستطاعتنا أن نصنع من جديد ابن رشد آخر، وابن طفيل آخر، وابن سينا آخر، وتلد أمهاتنا، محمد زفزاف آخر، وعابد الجابري آخر، والمهدي المنجرة آخر، والطيب الصديقي آخر… وربما عباقرة كبار لم يعرف العالم مثلهم.